عَوْدٌ على بَدْء

البارحة – مرة أخرى - بدأت المعالجة الكيميائية! ومع أنني مررت بهذه التجربة منذ أقل من سنتين، لكن المرض مختلف، وبالتالية طريقة المعالجة مختلفة، وأيضا نوع الدواء وتأثيراته مختلفة وصعبة – صعبة جدا!

لكن رحلتي الجديدة مع السرطان، لفتت انتباهي مرة أخرى إلى مقدار الصمت الذي يلوذ إليه البعض عند اصابتهم بهذا المرض أو بعض الأمراض الأخرى.

وأنا لن أعالج هذه المشكلة الاجتماعية، ولا أريد لوم من يخجلون أو يخشون المشاركة. إنما أود أن أشجعكم على المشاركة واخبار الآخرين من حولكم عن آلامكم وصعوبات المرض. ففي هذا فائدة لكم، وفيه أيضا فائدة للآخرين الذين يعبرون بتجربة مشابهة، أو ربما سيعبرون بها بعد قليل.

أذكر شخصا بدأ المواظبة على الكنيسة في حلب، وبعد فترة أشهر، انقطع فجأة. والغريب أنه لم يعد يجيب على الاتصالات الهاتفية، وبعد مدة تمكنت من التواصل مع زوجته فأخبرتني أنه مريض ويرفض أن يزوره أي شخص حتى الأقرباء.

لم ألتفت إلى المنع القاطع، وطرقت باب بيتهم بدون موعد سابق. كانت المفاجأة متبادلة، فهو صدم من ظهوري المفاجئ، وأنا فوجئت به يقضي أيامه الأخيرة مع آلام السرطان وحيدا مع زوجته! لماذا؟

لأنه لا يريد أن يعرف به الآخرون فيشمتون أو ربما يشفقون أو ...

هل في الأمراض ما هو مخجل؟

هل من المعيب أنك تعاني من الألم، أو أنك أسير الفراش، أو أنك لا تستطيع استقبال الزوار بسبب آلامك وتعبك.

لست بحاجة أن تعيش كذبة كبيرة وتلزم عائلتك بهذه الكذبة أنك مجرد – تعبان – ولا تستطيع استقبال الضيوف أو زيارتهم في بيوتهم.

أليست فرصة جيدة، يشاركك الآخرون الصلاة من أجل متاعبك؟

أليست فرصة جيدة، يشاركك الآخرون بتأمل روحي، بنص من الكتاب المقدس ربما يكلم قلبك وفكرك؟

هل يمكن أن تكون فرصة تحدٍ - لك أنت المريض – لإيمانك ومقدار تسليمك وانتظارك للرب وتدخلاته وتعاملاته معك؟

أليس هذا ما قصده الرسول يعقوب "أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ. أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ" (يع5/13 و14)، فبقوله هذا، يتوقع بشكل تلقائي أن "تُخبر" الآخرين، و "تطلب" منهم المساعدة على الأقل بالصلاة، وأيضا أن تأخذ موقفا شخصيا إيجابيا تدفع به نفسك نحو "الصلاة" و "الترتيل".

أدام الله لكم الصحة وكل خير

كالغري 12 تموز 2023


انتظر بصمت!

خلاصة الأمر أنه بمرور سنه ونصف عمليتان جراحيتان كبيرتان، نوعان من السرطان، ودرب طويل من المعالجة الكيميائية! ومع هذه الخلاصة القصيرة يهدر سيل من الأسئلة والاستغراب

معظم الذين زاروني في المشفى أو هاتفوني أو أرسلوا رسائل، كانوا يحاولون السباحة في هذا السيل، ومنهم مَن بدا عليه الاحراج: ماذا سيقول لشخص في موقعي؟ بل إن أحدهم بادرني مباشرة "دقيتلك، بس مش عارف شو بدي قول"!

خلال الأيام الأربعة التي قضيتها في المشفى وخسارة ما يقرب ٢٥سم من الكولون وبضعة كيلوغرامات من الوزن، كان هذا النص يتردد أمامي مرة بعد مرة:

"جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ" (مراثي 3/ 26)

في وسط الألم المرير، الخسارة الكبيرة، المرض العسير... وسط تخبطٍ نشعر أنه أقوى منا وأصعب من استنتاجاتنا، ماذا يمكن أن يُقال؟

وكأن إرميا يجيب: ولماذا يجب أن يُقال؟ لماذا لا يكون الرد هو الصمت والسكون المتشحان بالانتظار؟

لماذا نريد أن نتكلم؟ لماذا لا يكون الرد هو الصمت؟ تضع يدك على فمك وتصمت، تجلس وتنتظر – بصمت. ولا أقصد، ولا أعتقد أن ارميا يقصد ان تغلق فمك وتتكلم بقلبك (يعني صلاة صامتة)، لكن أن تصمت، كأنك تقول كما داود "عَجِيبَةٌ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ارْتَفَعَتْ لاَ أَسْتَطِيعُهَا".

فإذا كنتُ "لا أستطيعها" بمعنى لا أفهمها ولا أعرف استخدامها ولا أدرك ما ستكون نتائجها، فكيف سيكون رد فعلي إذا؟ "... وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي ..." (أيوب 40/ 4).

مشغولينا الأولى أن نتكلم، ندلي برأيينا، نشارك الحدث، نقدم حلا، نعرض ردا، ونعيب على من لا يفعل هذا، ونستخف بمن يأتينا بدون كلام، أو يختصر مداخلته بكلمتين مختصرتين، كأنها نقيصة دينية أو اجتماعية! متناسين نصوصا جميلة في الكتاب ترفع من قيمة هذه "النقيصة"، وتجعلها خطوة أولى نحو اكتساب الحكمة، ولملمة أطراف جواب نتحرق للحصول عليه.

كالغري 9 حزيران 2023


وصفة للقلق!

هل نستطيع أن نهرب من القلق والاضطراب بشأن أمور كثيرة تعبر بحياتنا؟ وربما السؤال الأهم، هل قلقنا مرض أو حفرة نُعمّقها ونوسعها بشكل يومي؟

ربما من أشهر النصوص التي تتحدث على القلق والاضطراب هو نص متى 6/25-34، ففيه يعرض الرب "وصفة" أو أسلوبا لمعالجة القلق والهم، يقوم على ثلاثة مبادئ لنظرة صحيحة ومنطقية لأولويات الحياة.

فهو يلفت انتباهنا إلى أمور أهم من غيرها: "أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟" ع25. هذا أول ما نفقد الإحساس به يوم يتحول قلقنا إلى طعام يومي!

هو لا يقول أن الطعام والشراب والكساء لا قيمة لها، ويجب رميها وعدم الالتفات إليها. لكن، ما الذي يأتي أولا، وما الذي يأتي ثانيا في يومياتنا؟ فكلنا نحتاج إلى كساء، لكن هل تتحول الثياب إلى شره يلف حبله حول رقبتنا، ويسرق منا اهتمامات أخرى، فتتشوه حياتنا بفقدانها؟

ثم يعرض لأمور لا يمكن تغييرها: "وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟" ع27. هذه ليست نظرة قَدَريَّة للحياة، بل نظرة واقعية إلى بعض جوانبها. نعم، هناك أمور في الحياة لابأس أن نعطيها بعض التفكير والجهد لنجري فيها تغييرا ما، وأمور أخرى ربما نصرف جهدا كبيرا ونقلق بشأن تغييرها، ونتمكن في النهاية من إجراء تغيير صغير كان أم كبير.

لكن هناك أمور أخرى تشبه "زيادة شبر على طولك"، من يستطيع؟ فما فائدة القلق في هذه الأحوال؟ وما النتائج التي ستحصل عليها من هذا القلق سوى التعب، وتعميق حفرة القلق والاضطراب؟

من المهم أن نجري تقييما سليما لِما يعبر بنا أو يصيبنا، لنحدد إن كان من النوع الذي يمكننا الاجتهاد لتعديله أو هو من النوع الذي سيبقى وربما يتفاقم، وبالتالي علينا التأقلم معه والاجتهاد في استخدامه لمجد إلهنا وبركة حياتنا؟

أخيرا يؤكد على مشابهات لا يمكن عملها: "فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ" ع32. وهذا في الواقع يضع أمامنا واحدة من أهم أسباب سقوطنا في حُفر القلق – مجاراة الآخرين!

فلا خلاف أن تقليد الآخرين هو مرض الإنسان الأزلي، ولا خلاف أيضا أن القلق مرض معدٍ. لهذا وجب الانتباه، لئلا نفعل ما نفعل، ونفكر أو نقلق من أجل موضوع، ما هو إلا تشبّه بآخرين، ربما غرقوا بالقلق أو ضاعوا وهم يفتشون على ما يريحهم.

اليوم، وأنا أنتظر موعدا صحيا جديدا وعسيرا، لا يقل خطورة عن الذي عبرتُ به منذ سنة ونصف، أقف على حافة القلق، أعيد قراءة هذا النص، وأنظر إليه بعيون جديدة. وأدعوكم لتستطلعوا معي "وصفة" الرب، بينما تعبرون بآلامكم، متاعبكم وهمومكم المقلقة، فهي وصفة تعلمنا كيف نهتم دون الانزلاق إلى حفرة القلق.

كالغري 28 أيار 2023


سأعطيك مرضا آخر

 

في ظرف جديد وغريب أعبر به، وقف أمامي النص 2كورنثوس 12/ 7-10، الذي يتحدث – حسبما يعتقد كثير من المفسرين – عن مرض مزعج أصاب بولس. وكان بولس، حسبما يخبرنا النص، قد صلى مرات عديدة من أجل شفائه، فلم يحصل سوى على الرد الذي نحبه ونردده بكثرة "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ".

وفي محبتنا لهذا التصريح الإلهي الرائع، لا نلتفت إلى الجواب السلبي المتضمن في هذا الرد، والذي يقول: لا، لا يوجد شفاء لك!

وأنا في الواقع من الذين يؤمنون بالشفاء الإلهي، وبالشفاء المعجزي – لكن المحدود، وأقصد بالمحدود، أن الشفاء لن يصيب كل مريض بالمطلق، فهناك إرادة إلهية، لا نعرفها، أو لا نفهمها، متعلقة بالاختيارات الإلهية. بمعنى هو الذي يختار من يشفي ومن يتركه برفقة المرض. وبولس في هذا النص أقرب مثال وأكثرها وضوحا.

لكن تخيل معي لو أن بولس طلب التخلص من هذا المرض، تخيل معي أنك مريض بمرض عسير، وبعضنا يحب تسميته مرض عضال، وتقف أمام الرب كما فعل بولس وتصلي: اشفني يا رب من هذا المرض. أو خلصني من هذه الشوكة، من هذا الضعف يا رب!

ثم يأتي رد مثل: لا، لا يوجد شفاء لك من هذا المرض، بل سأعطيك مرضا آخر يضاهي الأول صعوبة وعسرا!

هل هذا معقول؟

لم لا؟ لقد حصل لأيوب حسبما أعتقد!

هل تستطيع أن تتخيل ردة فعلك؟ نوع الصلاة التي ستصليها؟ أو كيف ستكرر وعده "تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ"؟

ولربما رد أيوب على زوجته لم يكن أقل تعبيرا يوم قال: " أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟"

كالغري 26 نيسان 2023


إن لم ترجعوا كالأطفال

(كتبت هذه الأفكار قبل يوم واحد من الزلزال – الذي كان أقوى من كل أفكار أخرى)

مع صراعي هذه الأيام مع "كورونا" وهي المرة الأولى التي يصيبنا بها المرض منذ اخترعوه، عاد الحديث إلى عملية زرع الخلايا التي أجريتها وتأثيراتها التي تبدو كأنها لا تنتهي. فقد أجريت في اليومين الماضيين خمس مكالمات طويلة مع الجهات الطبية حتى صرح آخرهم: سنعطيك الدواء الفلاني!

فربما أخبرتكم سابقا، أن المريض وبعد تلك العملية يفقد جسمه كل مخزن المعلومات التي كان قد خزنها منذ ولادته، وذلك فيما يتعلق بكل اللقاحات، بردة فعل الجسم للأطعمة والأدوية، وما يتجاوب معه وما يرفضه، ما يقبله وما يتحسس أو يمرض بسببه. وهكذا يعود إلى مرحلة الطفولة بتخزين وتسجيل المعلومات أول بأول من جديد!

وهكذا يعيش المريض حالة "طفولية" في التعامل مع الأدوية والأطعمة، ليكتشف ما هو مناسب له، وما هو غير مناسب ومضر، غريب أليس كذلك؟

خلال هذه المعمعة، وقف أمامي قول الرب "إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (مت8/3). وبدأت أسأل نفسي: هل المقصود بقول الرب شيء ما يشبه حالة فقدان السجلات التي تعرض لها جسمي؟ فإن كان كذلك فهذا بالفعل تحدٍ كبير! فهو يعني،

كأنك تتعامل مع ظروف الحياة وتحدياتها كما لو أنك تواجهها وتتعرف عليها لأول مرة في حياتك،

كأنك تسمع الكلمات السيئة، السلبية والقبيحة لأول مرة، فتتحسس منها ويصيبك طفح جلدي بسببها،

كأنك تواجه تعديات تعاليم الكتاب المقدس، لأول مرة، ولا تجد لها مكانا في تكوينك "الطبيعي"!

لكننا واقعيا لسنا كذلك، ولم نخضع جميعا لعملية زرع خلايا كما حصل معي – الرب يحميكم من أي مرض – وهذا يضعنا أمام التحدي الحقيقي الذي يتضمنه قول الرب. فما زالت السجلات محفوظة في دواخلنا، بكل ما تحتوي من قبائح وأمور لا تليق! وكثيرا ما نواجه تحديا لفتح واحد من تلك السجلات والعمل بموجبه!

وبالتالي:

أنا أعرف وقد جربت سابقا – لكنني، الآن آخذ موقفا رافضا للخطية.

أنا أملك سجلا أسودا مليئا – لكنني، الآن أنظر إلى تحديات الحياة الشريرة بنظرة جديدة، بطريقة تفكير جديدة، وبأشواق حياة مختلفة كليا.

كالغري 4 شباط 2023

السبي طريق النصره

هل يعقل أن السبي بآلامه ومتاعبه وذله ورائحة الموت التي ترافقه يمكن أن يكون طريقا للنصره وتحقيق الوعود؟ نعم

فالسبي لم يكن قصاصا للشعب على خطيته وانحرافه عن الوصيه والعباده الصحيحة فقط، فقد خلع عن الشعب امتيازات كثيرة، وجرد سبط يهوذا من تقدمه على باقي الاسباط، وبدا كانه أزال عن بيت داود علامات الملك.

لكن الوعود أتت عن مخلص ملك من نسل داود،

وأتت عن مخلص يفتدي، ويخوض معركة يعيد فيها أمجاد داود،

و الوعود أتت أيضا عن مخلص مسحوق تحت الالام، من مدينة لا قيمة لها، ولا علاقة لها بمدينة داود الملك!

تفطن معي، لو أن مملكة داود استمرت بقوتها، بجروتها، وعليها نسله يتمتعون بامتيازات الملوك ورفاههم، فكيف ستتحقق تلك النبوات والوعود؟

هنا اتى السبي، الألم المعاناه انعدام الأمل وفقدان المستقبل!

ما هو السبي الذي تعبر به حياتك أو خدمتك هذه الأيام؟

ما هو الألم الذي يسحق أيامك، وينهش أحلاما ووعودا كنت تنتظر أن تتحقق؟

احذر لئلا تكون قد استسلمت للسبي وعبوديته، وبدأت تفقد طعم الحريه والنصره بالمسيح،

احذر لئلا تكون قد اعتدت الالام، فلم تعد تفرق بين يوميات تقضيها متألما مسحوقا، ويوميات تقفز فيها قفزا لان الرب يستطيع أن يجدد شبابك،

احذر لئلا تكون قد نسيت الوعود، ومات في داخلك المستقبل قبل ان يولد،

كان السبي جزءا من رحم كبير يتحضر لولادة نصرة جديدة بتحقيق وعد الوعود.

نعم ربما خسائرك كبيرة، ربما آلامك شديدة، ربما عتمتك حالكة، وربما انفضوا من حولك وبقيت وحيدا، لكن الوعد الإلهي لا يتغير، لا يتبدل ولا يغير لونه او غايته.

لهذا وجب السؤال: ما شكل المولود الآتي من رحم هذا الألم؟ فأنا لا أريده أن يموت سقطا، بل أنتظر أن أراه وأن أسير معه في نصرة جديدة.

ها انا منتظر.

الاثنين ١٦/٠١/٢٠٢٣




حامل عوامل الموت

مرور العيد والدخول بسنة جديدة، كان له وقع مختلف عندي عن مروره السنة الفائتة. بين ضبابية التشخيص، صعوبة العلاج، عدم يقينية نجاح العملية، وبين صحة تبدو جيدة بدون أية علامات للمرض أو التعب أو اقتراب الموت. بين الجلوس في البيت بلا أي نشاط مقابل تحضيرات للسفر بعد بداية العام بأيام قليلة!

لكن هذا لا يلغي حقيقة أن عوامل الموت – السرطان – كامن في داخلي، يتربص فرصة ينفلت ويدمر ما يجد في طريقه من عوامل الحياة، فيقضي علي.

كانت هذه الحقيقة تلاحقني منذ اقتراب عيد الميلاد، وشعرت أنني استسلم لها شيئا فشيئا، حتى تذكرت الأصدقاء والأعزاء الذين رحلوا خلال العام، بينما أنا أنتظر وكأن عوامل الموت قد ماتت في داخلي! فتفطنت إلى "عوامل الموت" التي نحملها جميعا. كلنا، وليس فقط أولئك الذين يعانون أتعاب السرطان بمختلف أشكاله وهجماته. كلنا نحمل عوامل الموت، وكلنا ننتظر تلك اللحظة، وإن كانت العيون تتوجه نحوي ونحو أشخاص مثلي!

هل خملت عوامل الموت داخلك، وعبرت مثلي من عام إلى عام، وبالتالي تلتقي معي من خلال قراءة هذه الأسطر؟ إذا هي فرصتك لتعرف أنك نلت نعمة عظيمة، لتخبر عن عظائم إلهنا في حياتك. فإذا فتشت ولم تجد واحدا منها، تذكر عوامل الموت النائمة، وفرصة الحياة المستيقظة - الممنوحة لك!

كالغري 4 كانون الثاني 2023

 

 



هنئذا أرسلني

"ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ فَأَجَبْتُ: هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي"

ما الأصعب في الإرسالية؟

عندما نتحدث على دعوة الرب ورغبته بالإرسال، تنشط ذاكرتنا بتعداد الصعوبات التي تعترض الدعوة وتنفيذها.

ثم ننشط بتلوين مجموعة من الصعوبات التي نعتقدها الأكبر، لأنها تتعلق بخياراتنا وطريقة حياتنا، وفهمنا الشخصي للإرسالية.

لست أدري إن كنت تلقيت دعوة للذهاب، أو تنتظر تلقّي دعوة مِن الرب للذهاب – مع أنني أتمنى أننا جميعا نسمع هذا الصوت الذي سمعه إشعياء. وإلى تلك اللحظة المخيفة، المفرحة، المربكة، اسمح لي أن أسألك:

ماذا لو أتتك الدعوة، وضرورة الانطلاق خلال أيام قليلة لا تُكمل أسبوعا واحدا؟

فمن يرغب بالسفر، ذلك السفر الطويل والبعيد، خلال ثلاثة أو أربعة أيام؟ لكن، تخيل معي التالي: ماذا لو أوصل لك الرب رسالة مفادها: "أرغب أن أرسلك خلف المحيط بعد غد، وسنتحدث لاحقا بخصوص وقت عودتك؟"

هل تُجيب الدعوة؟

لكن، هل الأمور طارئة عند الرب إلى هذه الدرجة؟ لا أعتقد أن القضية متعلقة بما هو "طارئ"، بمقدار ما هي متعلقة بالطاعة. فالإرسالية – كل إرسالية - كل دعوة من الرب، مهما صغر حجمها أو كان كبيرا، مهما كانت قريبة المنال، أو أقرب إلى الاستحالة في التحقق، إنما متعلقة بالطاعة وليس بأي أمر آخر.

أما الطاعة فتعني القبول غير المشروط!

أما القبول غير المشروط، فهو يشبه موقفك وأنت توقع على أوراق شركة التأمين، ملف مؤلف من خمسة عشر صفحة، وأنت لا تعرف، ولا حتى عُشر ما يتضمن ذلك الملف – لكنك توقع!

القبول غير المشروط، يشبه موقفك من حبوب الدواء التي تتناولها، وبجانبها نشرة تخبرك عن ثلاثة عشر أثرا سلبيا يمكن أن تدمر ما تبقى من قوة أو صحة لديك – لكنك تتناولها وتفعل هذا يوميا!

فهل تصدق دعوته، مُسلما أن كل الآثار الجانبية المرافقة، لها علاج عنده، فتطيع وتذهب؟

ما الأصعب في الإرسالية؟

لا أعتقد أن هناك أصعب من هذه العبارة القصيرة البسيطة "أنا جاهز، أرسلني"!

كالغري 10 أيلول 2022

مُعزُّون بلا فائدة

كان خبر وفاة القس عصام فرح، صادما، ولا أعرف لماذا قفزت أمامي صورتي وأنا أقرب إلى الموت تحت العلاج منذ بضعة أشهر. هل لأن أعمارنا متقاربة، هل لأنه كان بين لائحة الأسماء التي أخطط لألتقي بها في زيارتي إلى سوريا، لا أعرف.

تلقيت الخبر السبت صباحا، وبقيت كل النهار أتحرك برفقة الحدثين، يضغطان على فكري ومشاعري بقوة. من ناحية قفزت إلى ذهني صورة عائلته وكنيسته تلفهم هالة غيابه الكبيرة الصامتة، في حيرة كمن أضاع عقده الفريد، ولا يتذكر أين وضعه آخر مرة!

ومن ناحية كنت أسأل الرب لماذا؟ لماذا بهذا العمر، وسط هذا المقدار من العطاء والحاجة إليه وإلى خبرته. وهي ذات الأسئلة التي كنت أسألها للرب يوم بدأت رحلة السرطان.

وتذكرت نص أيوب، ولا أعرف لماذا يقفز أمامي هذا السفر، في كل ما يتعلق بمرضي! وتذكرت يوم قال لأصدقائه "قَدْ سَمِعْتُ كَثِيراً مِثْلَ هَذَا. مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ!"، بمعنى بلا فائدة، أنتم لا تقدمون ولا تؤخرون شيئا. وكلامه صحيح – لكنه غير مريح!

فما الذي يمكن قوله لعائلته، ربما يُعيد ولو جزءا من عصام؟ لا شيء!

وما الذي يمكن قوله لكنيسته، ربما يُعيد حضورا ما لخادمها؟ لا شيء!

أما المفارقة، فهي أننا بحاجة للمعزين، وبحاجة إلى ضجة تخترق هالة صمت الغياب، بحاجة لمزيد من الصور والذكريات.

خادم الإنجيل القس عصام فرح، الذي خدم الرب بعنفوان منذ صباه، سنلتقي قريبا، فعودة السيد والقيامة قريبة جدا.

كالغري 10 تموز 2022