موطن المواطنة الثاني

في مقالتي "موطن المواطنة" تحدثتُ عن الموطن أو الرحم الأول الذي تتبللور فيه صورة المواطن في الأوطان، ألا وهو الدستور، الأمر الذي يحضّنا على أن نكون أشد حرصاً وأكثر انتباهاً لحال هذا الموطن الأول ليكون – دائماً - صالحا كل الصلاح في توليد مفهوم صحيح وعادل ومتوازن وحقيقي لـ "المواطن".

لكنَّ المواطَنة التي تبدأ "فكرة" في الدستور، تحتاج إلى رحم حقيقي أو مَوطن آخر يمارس المفهوم فيه بشكل عملي ويومي وربما لحظي، وهذا الموطن ليس إلا المدرسة!

المدرسة، وبالرغم من كل البساطة والتلقائية التي نتعامل معها ونعيشها يوميا، هي في الواقع أهم وأقوى حاضن ومولد لتطبيقات المواطنة في البلدان.

في المدرسة يخرج الأولاد مِن دائراتهم الأصغر والأكثر انغلاقا وتحكّماً إلى دائرة أكبر وأوسع، إنّها تجربة الخروج من البيت والعائلة وربما من العشيرة في المدن الكبرى إلى ألوان لا تحصى من التنوع بحسب موقع المدرسة بالنسبة للتنوعات السكانية التي تتوسطهم.

في المدرسة - وهكذا نتوقع – يتعلم الأولاد أنّ الوطن ليس البابا والماما واخوتي وأخواتي وحسب، ولا هو أعمامي وأخوالي ومَن أنتمى إليهم بحسب هذه الدائرة وحسب، بل إنّ الوطن خليطٌ عجيب كأن لا نهاية لتنوعه وتعدده، وطبعا أنا أتحدث هنا بالأكثر عن سوريا الملونة.

في المدرسة – وهكذا يجب أن يكون – يتدرب الأولاد على اعتبار "الآخرين" الذين ظهروا في البداية كأنهم "غرباء"، هم شركائي في أنهم مثلي "سوري"، ليفهم بعد قليل أن هذه الشراكة نسميها "المواطَنة".

لكن ماذا يحدث في مدارسنا؟ وأية مواطَنة نرسِّخها في وعي ولا وعي أطفالنا؟

في مدارسنا ندرّب أولادنا بكل دقة واتقان واجتهاد من وزارة التربية وَرِضى كل الوزارات الأخرى والهيئات الدينية والاجتماعية وسواها أنَّ تقسيم الأولاد إلى أديان أهم جداً مِن هذا المفهوم الجامع والغامض المدعو "مُواطَنة".

هناك وبينما نلقّنهم العِلم العام والعِلم الوطني، نلقِّنهم أنَ التلاميذ منهم مسلمين ومنهم مسيحيين، ومعظمنا اختبرنا التطبيق المؤلم لهذا التمييز يوم كُنَّا في مدرسة معظم طلابها من "الدين الآخر" غير ديني أنا، وكيف قضينا كل السنوات تحت تهديد ووعيد أو استهزاء أو تهميش أصحاب الدين الغالب في المدرسة!

وهكذا تقوم مدارسنا بكل اتقان ونجاح بتلقين الأطفال هذا التمييز القهري بين المواطنين، والذي يرافقنا كل عمرنا، بحيث أنَّ شيئا لا يمكن أنْ يُقنعنا أنّنا مواطنون "متل بعضنا" بل نحن أتباع أديان مختلفة وفي ذهن البعض متناحرة في وطن واحد!

هل حقا من مسؤولية الدولة وبالأخص وزارة التربية أنْ تضع منهاجاً غريباً اسمه "التربية الدينية"! هل مسؤولية الدولة أن تعمل مفتيا أو فقيها في الإسلام أو المسيحية؟

وهذا في الواقع يقودنا إلى طرح جديد بخصوص هذا الكتاب "اللامدرسي" و "اللاتربوي"، حيث يرغب البعض بصنع كتاب جديد كأنه خليط من التربية الوطنية والتربية الدينية، يتضمن دروساً عن الأديان ومحبة الأوطان! أليس هذا غريباً جدا؟

في هذا المشروع،

تعود الدولة متمثلة بالوزارة التربوية لتلعب دور رجل الدين.

ونعود معه إلى الجدلية التي لا طائل منها: من يضع الكتاب؟ فالمسلمون سيقولون لقد أعطوا الصوت الأقوى في لجنة تأليف الكتاب للمسيحيين، والمسيحيون سيقولون الأمر عينه، ثم سيفعل أهل السنة هذا تجاه أهل الشيعة، وكذلك سيفعل الكاثوليك والأرثوذكس وسواهم!

ونعود مع هذا المشروع ونؤكد أنَّ المواطَنة مَشروطة بالأديان "المعترف" بها على أرض الوطن بمراسيم وقوانين، بينما يصون الدستور حق العبادة لكلٍ على هواه. وسنكمل نفس الطريق القديم – اللاوطني - في فرز أولئك الذين يتبعون أديانا غير "معترف بها" أو لا يتبعون أيّ دين.

هل حقاً لا نملك الجرأة على إلغاء الكتاب المسمى "التربية الدينية" بكل بساطة، وتربية أولادنا في مدارس "الوطن" ليتعلموا هناك "المواطنة" بدون تمييز بسبب انتماءاتهم الدينية والمذهبية؟ وبالتالي تكون مدارسنا وخاصة الابتدئية منها رحماً صالحاً لزراعة بذور المواطنة في قلوب أطفالٍ تِرْبَتها الأكثر صلاحاً لزراعة ونمو "المواطَنة" الصحيحة.

يجب أنْ يعبر مفهوم المواطَنة في المدرسة في أذهان الأطفال بلا خليط ولا ألوان إضافية، وحتما دون أنْ يسبقه أي مفهوم آخر وخاصة الدين.

هل لا نملك الجرأة حقا؟!

حلب 11 كانون2 2012